تطور الشعر الحديث شكلا ومضمونا

تطور الشعر الحديث شكلا ومضمونا


تطور الشعر الحديث شكلا ومضمونا:

بلغ النموذج التقليدي للقصيدة العربية كماله في العصر الجاهلي وشهد تطويرا أو تطويعا جعله صالحا لمسايرة ما طرأ على الحياة العربية المتجددة من تحولات في الأعصر اللاحقة وكان من الطبيعي أن يصبح هذا النموذج وفي أعصر الانحطاط خصوصا الملاذ والقدوة .
في إطار هذه القواعد الصارمة جاء شعر النهضة الحديثة مستفيدا مما يصله من لأصداء الخارجية عن طريق الترجمة والاتصال المباشر معتمدا على ما وصله من تراث الأوائل غير أن حركة الترجمة التي شهدها أدبنا الحديث تختلف عن حركة الترجمة التي شهدها العصر العباسي إنها ترجمة يقوم بها مجتمع مغلوب عمد الاستعمار إلى تكسير بنياته الداخلية وإرساء بنيات رأسمالية متطورة تهدف إلى إخضاعه قصد استغلال خيراته نتج عن هذا التحدي الاستعماري موقفان موقف يرى طريق الخلاص في الرجوع إلى الإسلام في صفائه الأول موقف يرى بأن الاستعمار استطاع أن يخضع المجتمع العربي نظرا لما استطاع أن يحققه من تقدم في مجال الفكر والعلم وأن لامناص للعرب إذا أرادوا التحرر من الأخذ بهذا العلم وهذا الفكر لخلق مجتمع متنور قادر على التصدي للتحدي الاستعماري .
الشكل:
من المعروف أن إيقاع القصيدة التقليدية يرتكز أساسا على توالي الحركات والسكنات بشكل محدد عمد الخليل بن أحمد الفراهيدي إلى وضع أسسه التنظرية وقوانينه التابثة وقد أدى اعتبار البيت وحدة إيقاعية إلى ضرورة توالي التفعيلات تواليا عدديا مضبوطا بالضرورة إلى التوقف عند كل بيت .
كان على الشاعر العربي أن يكيف تجربته مع الوزن والقافية مع مراعاة عمود الشعر وقد أحس الشعراء منذ القديم بضرورة البحث عن طرق جديدة للتعبير عن تجاربهم من هنا كانت بعض المحاولات حكما على عدم قدرة الأوزان التقليدية مجاراة تجارب العصر كما أن الموشحات في الأندلس جاءت استجابة لتطور فن الغناء أما في العصر الحديث فإن مدرسة الديوان قد أخذت على عاتقها تطوير الشعر شكلا ومضمونا فأعطت بعض محاولات إبراهيم المازني فنية جديدة للقصيدة العربية ولا شك أن تأثير مدارس الشعر الغربية كان واضحا في هذه المحاولات ولعل مدرسة المهجر كانت أكثر جذرية بحيث نجد عند كثير من شعرائها لا تحررا من قوانين العروض والقوافي فحسب بل تحررا من قواعد اللغة العربية أيضا فظهرت لديهم قصائد لا تفتقر فقط إلى وحدة القافية بل يتعدد فيها الوزن أيضا وكان لشعراء المهجر أيضا وخاصة جبران وميخائيل نعيمة دور كبير في تطوير مفهوم الشعر .
إذا كان على الشاعر العربي القديم أن يلتزم الإيقاع السميتري للتعبير عن تجارب معدودة فإن الشاعر المعاصر ينطلق من أن تجاربه قد أصبحت أوسع من أن تستطيع رتابة الإيقاع احتوائها وبالأحرى تأديتها لذلك لجأ إلى إحداث تغيير في الشكل لينفسح الإيقاع النفسي مع إيقاع القصيدة ونموها نموا شبيها بنمو الكائن الحي حتى يسهم الشكل في أداء المضمون في إطار حركة متناغمة بحيث تصبح القصيدة الجديدة مرتبطة بالحالة الشعرية وعاكسة لها ويؤدي هذا حتما إلى أن تصبح القصيدة هي الوحدة الموضوعية لا البيت .
الشعر الحر نتاج اتصال حضاري بين الشرق والغرب وقد أدى ما شهدته المرحلة من إحباطات سياسية وصراعات اجتماعية إلى تدمير القصيدة التقليدية وجعل الحديثة كل مرتبطا في حين أصبحت الوحدة الموضوعية التي يبحث عليها الشاعر هي القصيدة لا البيت وأصبح يبحث عن المقارب بين عالم القصيدة و عالم الواقع الاجتماعي الذي ينطلق منه الشاعر يقول محمود درويش :
في الباري أغنية
يا أخت
عن بلدي
نامي لأحفرها
وشما على جسدي
ويقول توفيق زياد :
هنا على صدوركم باقون كالجدار
ننظف الصحون في الحانات ونملأ الكؤوس للسادات
ونمسح البلاط في المطابخ السوداء
حتى نسل لقمة الصغار
من بين أنيابكم الزرقاء
إن الصورة التي يحاول درويش أن ينقلها هي واقع فلسطين المحتلة ومعاناة الشاعر من هذا الواقع كما أن توفيق زياد يرسم صورة الكادح الفلسطيني وما يعانيه من آلية الاستغلال الصهيونية .
لم يقف الشاعر عند حد الوزن بل تجاوزها إلى التعبير عن نفسه فحطم العبارة التقليدية وأصبح همه الأوحد هو أن يوصل الفكرة إلى المتلقي عبر أيسر الطرق وأقربها مما أدى إلى الإيجاز في التعبير .
إن توالي الإحباطات التي عرفتها الساحة السياسية العربية جعلت الشاعر الحديث يعتبر النماذج التقليدية متجاوزة وأنه كذلك مدعو إلى تجاوزها وتكسيرها وقد وجد شعراء في الشعر الغربي نموذجا وقدوة في هذا المجال فتخلوا حتى عن نظام التفعلة ملتجئين إلى قصيدة النتر والجملة الشعرية مع تكسير الجملة التقليدية بتحطيم قواعد النحو والاشتقاق والإتيان بالجملة الفوضوية يقول مضفر النواب :
وهذا الثوري المتخم
بالصدف البحري
من بيروت
تكرش حتى عاد بلا رقبة
فالشاعر لا يهتم باحترام الصياغة التقليدية للجملة العربية ولا بالفصاحة العربية بحيث تصبح اللفظة العامية شاعرية إذا أدت المعنى .
إن اعتناق الشاعر لمذاهب فكرية أو اجتماعية جديدة جعلته يعتبر أن دور الشعر ليس التعبير عن المشاعر الراقية بل دوره الأساسي هو أن يكون أداة نقل الفكر لأوسع الجماهير المطالبة بالمساهمة في معركة البناء والتغيير وهذا يقتضي أن يكون الشعر في متناول هذه الجماهير يشارك في إذكاء حماسها وصقل ذوقها وجماهيرية الشعر تؤدي إلى اعتماد الألفاظ المتداولة من غير اهتمام بفصاحتها أو عاميتها كثيرا ما يستعمل ألفاظا أجنبية أيضا .
المضمون:
ليس دور الأدب أن يعكس الواقع كما هو بل أن يساهم في تغيير هذا الواقع انطلاقا من رؤية معينة للعالم لذلك لم يكتف الإنسان العربي بالوقوف منبهرا أمام التحدي الحضاري الغربي المتمثل في التقدم شمل الفكر والعلم والصناعة فحاول بعد مرحلة الذهول ثم التقليد أن يبحث عن استجابة لهذا التحدي وقد اتخذ هذا البحث اتجاهين :
الاتجاه إلى الماضي قصد استقاء النموذج أو التصور الذي يجب أن ترسم على منواله ومن خلاله الخطوات الهادية إلى طريق الخلاص.
النزوع إلى الترجمة والتأثر بالفكر الغربي الحديث لمواجهة الخصم بنفس سلاحه الأمر الذي سيؤدي بالمثقفين العرب إلى الارتواء من رحاب الآداب الغربية الواسعة وسيجدون بالنزعة الرومانسية متنفسا يعبرون من خلاله عن معاناتهم وآلمهم التي هي جزء من آلام شعبهم لكن الرومانسية العربية تختلف عن رومانسية الغرب في كونها غير ناتج عن تطور في البنية الداخلية في المجتمع ذلك أن أدباها ينتمون بصفة عامة إلى شريحة المثقفين المنحدرين من الطبقة الدنيا من المجتمع وهم بذلك غير راضين على موقعهم مما يعمق شعورهم بالضياع أمام الواقع العربي المتردي الذي يشعرون أن مهمتهم الأساسية هي الإسهام في تغيره .
لم يعرف الأدب العربي القديم القصة ولا الرواية لذلك لم تواجه هذين الفنين عوائق تمنع تطورهما لكن الأمر يختلف بالنسبة للشعر الذي يتوفر  منه الأدب العربي على ميراث ضخم فيتحول إلى عقبة في الطريق لتطور الشعر ولعل الخصوم التي شهدها هذا القرن خير دليل على ذلك .
حاول أفلاطون إخراج الشعراء من الجمهورية الفاضلة في حين نجد شعرائنا المحدثين هم الذين يبعدون أنفسهم عن هذا العالم حتى أصبح رفضه منهجيا يذكرون بديكارت الذي يقول "أنا متمرد إذن موجود " .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

MODAKRATI تصميم بلوجرام © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.