من ذكريات صبي

 
ذكريات صبي

من ذكريات صبي

نقلنا متاعنا القليل إلى تحت الشجرة تين هرمة ، على جانب الطريق.  عملنا بصمت وتضامن.  رتبنا أغراضنا ، وأخرجت الأم ثوبا علقه الوالد على الشجرة ، ستارة تحجبنا من عيون المارة.  أنا لا أذكر كيف ، ولماذا أقمنا تحت شجرة  التين ، وراء تلك الستارة من جهة الطريق. 

قريبا منا ، كانت ساقية صغيرة ، تتشكل منها البركة ، يسبح فيها الإوز والبط ، ومن البركة ، تعاود الساقية مسيلها في خندق معشب ، ترسل الضفادع على جانبيه نقيقا جماعيا في الأمسيات.  كان البعض يتطاير فوق البركة ، وكان شجر التين ، بعبقه وغباره ، وتكاثف أوراقه ، وتداني غصونه ، مغريا لكميات من هذه الحشرات. 

تبقعت وجوهنا بآثار القرص.  لم تنفع نصائح  الفلاحين لنا بإشعال النار من حطب أخضر ، يساعد دخانه في طرد البعوض.  كانت جسومنا غضة ، وجلودنا طرية ، وكنا بالعراء ، ولا ناموسيات لدينا ، وعبثا حاولنا طمر وجوهنا في الوسادات ، أو تحت الأغطية. الحصيلة ظهرت بسرعة : الملاريا.  وقد عبرت عن نفسها بشكل لائق : البرداء.  وكنت ، في الضحى ، أزحف إلى الشمس الحارة ، وأنا أرتجف من البرد ، برغم حرارتها ، حتى إذا مرت نوبة البرداء ، تلتها نوبة الحمى ، فأزحف ثانية باتجاه أمي المريضة ، وأندس إلى جانبها.  ظني أن أختي كانت تعاني مثلي.  وكثيرا ما قرفصنا معا في الشمس ، على هذه الحال ، لا نطلب سوى الماء ، إلى  أن تزايلنا الحرارة ، يتلوه يوم من المرض. 

أما الرماد ، فقد داويناه بذرور يشبه ذرور الفحم الحجري ، جاءنا به الوالد منحكيم شعبي شيخ. 

كانت عيوننا قد تورمت.  غدا البياض أحمر كالدم ، وانتفخت الجفون ، ولم نكن نستطيع فتحها صباحا ، قبل أن نغسلها بالماء الحار ، وفي الأماسي ، تستد الحرقة فنبكي ، وللتهدئة ، نصبوا لنا أرجوحة حبال ذات كيس خيشي ، كانوا يضعونني فيه ، ويؤرجحونني حتى  أنام ، فإذا استيقظت ليلا ، حملني الوالد.  ودار بي تحت الأشجار. 

تقدمت فلاحة عجوز بوصفة طبية عجيبة: أن  نسلق بيضة ونشطرها ، فنضع شطرا منها على كل عين ، لامتصاص الحرارة.  قالت : إن بصلة تقوم مقام البيضة ، كانت هذه متوفرة فشوينها.  كانوا ينقون البصلة الصغيرة ، ويطمرونها في الرماد ، ويستخرجونها حارة ، فيلفونها بخرقة بيضاء ، ويعصبون بها عيني.  في البدء كنت إنط ، أو أتمرغ بالأرض من الحرارة والألم ، ثم تبرد البصلة ، وتبترد العينان ، وأغفو في الأرجوحة ساعات ، تمتد أحيانا إلى  الصباح. 

ولما فشلت البصلة في شفاء الرمد ، أفادت العجوز الناصحة ، أن  السبب هو بياض العصابة على  العينين ، فغيرتها الوالدة بعصابة سوداء ، ولم تنفع هذه أيضا ، ولم تنفع هذه أيضا ، ولم يخف الرمد إلا مع الخريف ، لما بدأ هطول الأمطار ، وقل الغبار ، وانتقلنا إلى  كوخ طيني ، في حقل صغير لأحد الملاكين. 

بقينا ثلاثة أشهر ، تحت شجرة التين ، على قارعة الطريق ، تراب من تحتنا وغبار من فوقنا ، وفي ساحة القرية ، تلتقي القطعان كل صباح ، تسرح وراء الرعيان ، مثيرة سحبا حمراء ، وإذ تمر القطعان على الدرب ، قبالة شجرة التين ، وتتراكض الأبقار والثيران في هراش ، أو يهش الرعاة على الأعناز والأغنام ، فتعدو متدافعة ، تتشكل موجات عجاج تقذفها الريح باتجاهنا ، فتعلق بأوراق الشجر ، وتنخل علينا غبارا كريها يغطي الفراش.  

حاول الوالد أن  يعمل إسكافيا.  ركب بضع خشبات ، بعضها إلى  بعض  ، واصطنع منها صندوقا للتسكيف ، وجلس تحت  شجرة ، بانتظار الرزق.  ولقد كنت  آنذاك ، أصدق أن الوالد إسكافي ، وظننت أنه سيكسب شيئا ما ، وأن القرية ستأتيه بأحذيتها بإصلاحها ، كما يفعل بأحذيتنا. 

وقد خاب توقعي كله ، ليس لأن القرويين لم يحملوا أحذيتهم لإصلاحها ، بل لأنهم كانوا بدون أحذية ، حفاة، كان الوقت صيفا ، وكانوا حفاة ؛ وفي الشتاء تبدل حالهم قليلا ، تبدل بالنسبة للرجال وبعض النساء فقط ، أما الأطفال من سني ، فقد كانوا بلا أحذية طوال الفصول ، وهذا ما خفف علي حيائي ، لإنني كنت بلا حذاء. 

أخيرا رتق والدي حذاء...

رقع حذاء فلاح ، أصلح حذاء آخر.  أحذية عتيقة أصلحها.  صار لنا نأكل.  كان يعمل مقابل أي شيء ، والفلاح ، يعطي شيئا ما ، أما النقود فنادرة. 

ما حلسبه الفلاحون على  الإتقان ، ولا حاسبهم على الأجرة.  كل منهما قدر الظروف فتساهل ، والوالد ، من جهته ، كان يريد أن  يعمل شيئا ، مهما يكن المردود ، ولو بغير ورود الأحذية للتصليح ، حتى بهذا الشكل المنقطع البائس.  توقف العمل ، أواسط الصيف ، فلعن الوالد الحظ وقال: (لو كان الشتاء).

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

MODAKRATI تصميم بلوجرام © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.