(جيكور) .. القلب النابض في قصائد الشاعر بدر شاكر السياب


تحليل قصيدة يا غربة الروح بدر شاكر السياب

 (جيكور) .. تلك القرية الصغيرة التي غادرها الشاعر بدر شاكر السياب تاركاً كل ما فيها من أجواء طبيعية وصفاء في النفوس وأيام عرف معها نور الحياة.. ودفئاً وألفة بين الأهل والأًصحاب.. تلك صورة حميمة نقلها إلينا الشاعر بأعمال أدبية رفيعة في براعة الأداء والأسلوب ووضوح الفكرة . فقد صور لنا تجربة إنسان معاصر في المدينة تنفعل ذاته دوماً بلهفة وشوق إلى أرض تمنحه عبق الماضي ونفحات من البيت القديم... 
 
ففي كثير من قصائده الرائعة يصور (السياب) إحساس الريفي الذي ترك قريته وحل في مدينة حافلة بالضجيج. وقد صور لنا في قصيدته (يا غربة الروح) ،الجوانب الإنسانية البعيدة عن القيم النفعية المباشرة بين الناس ، فنجد ذلك التعلق بالأصالة والارتباط بالقرية وما تشيعه من ود ومحبة بين الأهل.يا غربة الروح في دنيا من الحجر
  مسدودةٌ كلُّ أفاقي بأبنية
سودٌ. وكانت سمائي يلهثُ البصر
في شطّها مثل طير هدّهُ السفرُ
النهرُ والشفقُ
يميلُ فيه شراعٌ يرجفُ الألقُ
في خفقه وهو يحثو كلما ارتعشا
دنيا فوانيس في الشطين تحترق
فراشةٌ بعد أخرى تنشر الغبشا
فوق الجناحين حتى يلهثُ النظرُ
 
التعليق على المقطع الأول:
 في المقطع الأول اسم قرية الشاعر ( جيكور ) لكننا نستطيع إدراك العمق الذي بلغه السياب في القصيدة فنحن نشاركه انفعاله عندما يضيق ذرعاً بالمدينة التي لا يرى منها إلا حجارةً وثلجاً وضجرا , ويزداد ألمُه عندما تطيفُ به أجنحةُ الخيال , ليذكرَ دفءَ الأيام الماضية في التفاف الأهل والصّحب حولَ نار العشيات في السّمر , ونسبرُ أغوارَ الاحساس مع صورة مدهشة لذلك الحفيف المترامي لكنه يبكي الشجر المفقود وكأنّهُ الأيامُ المفتقدة عندَ الشاعر.
 
تذكر دفء الماضي في جيكور :
يا غربة الروح في دنيا من الحجر
  مسدودةٌ كلُّ أفاقي بأبنية
سودٌ. وكانت سمائي يلهثُ البصر
في شطّها مثل طير هدّهُ السفرُ
النهرُ والشفقُ
يميلُ فيه شراعٌ يرجفُ الألقُ
في خفقه وهو يحثو كلما ارتعشا
                               دنيا فوانيس في الشطين تحترق    
فراشةٌ بعد أخرى تنشر الغبشا
                           فوق الجناحين حتى يلهثُ النظرُ—        
     
التعليق على المقطع الثاني:
 
وفي المقطع الثاني يبدأ أيضاً من حصار الأبنية العملاقة له فلا يعرف متنفساً يستروح فيه ولا أفقاً يسبح فيه النظر , وتتدفق الآمال وخطوط الأيام المقبلة , وسرعان ما نجد السياب يهرع إلى النهر والخضرة والسماء تتسع لمد البصر والتأمل , والأضواء تنعكس لامعة براقة بألق في الماء المتهادي , ولعلنا نبلغ شغاف القلب عندما نلمح تلك الفراشات المحترقة باقترابها من الضوء الشديد ونعقد مقارنة بالشاعر المتلهف إلى عودة لداره مهما تكلفه إذ سئم حياة بلا طعم ولا جدوى تغني النفس .
 
مناسبة النص:
عاش الشاعر في قريته جيكور فأحبها ولكن الظروف اخرجته من قريته فأنتقل إلى المدينة بحثاً عن الرزق لم يوفق الشاعر بالمدينة وغرق في الزحمة والضجيج والحياة المادية لذلك أطلق هذه القصيدة والتي هي عبارة عن زفرات وجدانية .
هذه القصيدة تمثل الشعر المجدد في موسيقاه , فهو يتابع التفعيلة ويوزعها على الأسطر بدلاً من الأشطر المتساوية في ابيات القصيدة العربية , وتحاول هذه القصيدة ان تتماوج تفعيلاتها مع حركة الإنفعال لدى الشاعر .
وإذا ما تأملنا الظلال حول القصيدة فإنها تمثل خيوطاً نتتبعها لنجد أن النفس إنما تنمو ,وترى الحياة وتكون فاعلة في غطارها الذي نشأت فيه وضمن القيم الت يتنبع من تاريخها وشخصياتها القومية , فالغربة في رحلة الشاعر في بلاد أجنبية
أيقظت إحساسه بنفسه وأمته انتماءً حضارياً متكاملاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

MODAKRATI تصميم بلوجرام © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.