شعر الرؤيا جدلية الموت والحياة عند الشاعر خليل حاوي

 

شعر الرؤيا

جدلية الحياة و الموت عند الشاعر "خليل حاوي"

البعث في "النهر والرماد" و الناي و الريح"

عرض خاص بالثانية باك اداب وع إ


إذا ما أراد المرء أن يلخّص نظرة خليل حاوي إلى الواقع العربي المتخلف في كلمة، فلن يجد خيرًا من كلمة "الموت" لتحقيق هذا الغرض. والموت في رؤية خليل حاوي ليس ذلك الموت الطبيعي الذي يتربص بكل إنسان، فالإنسان "كائن للموت" كما رأى الفيلسوف الألماني هيدغر(1) الموت هنا ليس موت فرد ولا أفراد، إنه موت أمة بكاملها، ومن هنا يكتسب الموت خطورته وبشاعته في آنٍ.

ومنذ القصيدة الأولى "البحار والدرويش"، يقدم لنا حاوي صورة معبرة للموت المخيّم على الشرق الذي يمثله الدراويش:

آه لو يسعفه زهد الدراويش العراة

دوّختهم حلقات الذكر

فاجتازوا الحياة

حلقات حلقات

حول درويش عتيق

شرّشت رجلاه في الوحل وبات

ساكنًا، يمتص ما تنضحه الأرض الموات

في مطاوي جلده ينمو طفيلي النبات:

طحلب شاخ على الدهر ولبلاب صفيق

غائب عن حسه لن يستفيق(2)

والموت وإن لم يكن قد ذُكر صراحةً في هذا المقطع من القصيدة، إلا أن كل شيء يدل عليه: فهؤلاء الدراويش يتصفون أولًا بـ "الزهد"، والزهد في نظرهم ليس سوى الانعزال تمامًا عن الحياة وكل طيباتها، مما يجعل للزهد دلالة عدمية مقاربة لدلالة الموت. وهؤلاء الدراويش هم، ثانيًا، "عراة"، والعري مظهر نبذٍ لشيء  هو من مظاهر الحياة. ثم إنهم "يجتازون" الحياة، لكن هذا الاجتياز، بعد أن "دوّختهم حلقات الذكر"، إنما كان بشكل حلقات، تدور في دوائر محددة دون أن تغادرها إلى آفاق أرحب، ويا له من "اجتياز" هذا الذي يتمّ على هذا النحو!

وهذه الحلقات الصوفية التي لا تفتأ تدور وتدور، يقف في وسطها "درويش عتيق"، هو الشيخ الصوفي الذي تستمد منه هذه الحلقات معناها وحقيقتها، لكن ما حال هذا الدرويش المركز؟ إنه قبل كل شيء "عتيق"، له صلة بدهر غابر لم يعد له اليوم من أثر. وهذا الدرويش ساكن سكون الموت نفسه، فرجلاه قد "شرّشتا" في الوحل، والوحل مانع من الحركة؛ لذا فقد "بات ساكنًا". وكل ما يفعله في حال سكونه هو أنه "يمتص ما تنضحه الأرض الموات"، فليست لديه القدرة على الحراك وبذل الجهد والعمل؛ لذا نجده مكتفيًا بامتصاص ما تجود عليه به الأرض "الموات". وهو يكتفي بهذه الصدقة التافهة من الأرض "الموات" لأنه ليس سوى جزء من هذا "الموات"، وإلا فلو لم يكن ميتًا لما رضي لنفسه أن ينمو في مطاوي جلده "طفيلي النبات". إنه ميت؛ لهذا يستغله الطامعون والمتآمرون والمستعمرون بسهولة لا مثيل لها، فهم جميعًا مطمئنون إلى أن هذا الموت لن تعقبه إفاقة (غائب عن حسه لن يستفيق).

وهكذا تزخر هذه اللوحة الشعرية بدلالات متعاضدة، تقود جميعًا إلى دلالة مركزية كبيرة، هي "الموت". وهي الدلالة التي أكّدها انتهاء معظم الأسطر الشعرية بحرف ساكن، الأمر الذي يقوي معنى نهاية الحركة والانطلاق، والوقوع في السكون، سكون الموت.

وتتكرر صورة الموت المخيم على الأمة في مواقع مختلفة من ديواني خليل حاوي الأولين، ولعل من أشد هذه الصور إيحاءً الصورة الواردة في نشيد "عصر الجليد":

في خلايا العظم، في سر الخلايا

في لهاث الشمس، في صحو المرايا

في صرير الباب، في أقبية الغلّة

في الخمرة، في ما ترشح الجدران

من ماء الصديد

رعشة الموت الأكيد (3)

هذه الصورة، أو الصور بتعبير أدق، تكشف عن أنّ "فترات الانحطاط الطويلة التي رانت على مجتمعنا جعلت الشاعر يعتقد أنّ حالة الموت والجمود قد تأصلت فينا بشكل جذري عميق وشامل، وهذا ما تعرضه قصيدة الشاعر "عصر الجليد" التي يبدو فيها الإنسان فاقدًا كل أمل بالحياة خلال مرحلة من الموت الشامل" (4) فالموت هنا ليس أمرًا محدقًا بالإنسان من خارجه، إنه يعيش معه في داخله، في خلايا عظامه، بل في أدق أسرار تلك الخلايا، مما يدل على شدة توغله وتمكنه. ثم إنّ المفارقة التي يرسمها الشاعر في الصور التالية هي أنه يجعل الموت كامنًا في مظاهر يُفترض فيها أن تكون مظاهر تجدد، وأمل، وحياة، ومتعة. فالموت كامن في "لهاث الشمس"، أجل، الشمس تلهث باحثة عن التجدد والدفء للإنسان، لكن لا يكمن في أحشائها سوى الموت. والموت كامن أيضًا في "المرايا" التي تعيش "الصحو"، الصحو الذي ينتظر البهاء والجمال ليعكسه، فلا يلقى غير الموت في انتظاره. وهناك أيضًا "الباب" الذي يُفتح أمام الأمل الجديد والحياة الجديدة، فلا يكون ثمة أثر لهذين، وليس ثمة غير الموت. ومجمع الغلة هو مجمع الخير والحياة، هذا ما يُفترض، لكنه هنا مجمع الموت ليس غير. والخمرة تحمل في طياتها دلالات المتعة والنشوة، لكنها هنا مخبأ يختبئ فيه الموت. وهكذا لا يبقى غير الموت، موجودًا خارقًا وحيدًا، يتجلى في كل ما نحسبه مظاهر حياة وتجدد.

    وعندما يتحول كل ما حولنا وفينا إلى موت، وعندما لا يبقى أمام سطوة الموت وجبروته أي أمل بالنجاة وأي إيمان بالتغيير، عندها لا يبقى للعمر كله أي معنى، ولا يضير المرءَ بعدها أن يغرق في الذنوب أكثر، وأن ينسحق تحت النيوب أكثر:

أنجرّ العمرَ مشلولًا مدمّى

في دروب هدّها عبء الصليب

دون جدوى، دون إيمان

بفردوس قريب؟

عمرنا الميت ما عادت تدمّيه الذنوب

والنيوب(5)

والعمر عندما يكون مجرد سير في هذه الحياة، بلا غاية ولا هدف، فإنه لا يستحق أن يسمى عمرًا من أساس:

عمره ما كان عمرًا

كان كهفًا في زواياه

تدب العنكبوت

والخفافيش تطير

في أسى الصمت المرير

وأنا في الكهف محموم ضرير

يتمطى الموت في أعضائه

عضوًا فعضوًا، ويموت

كل ما أعرفه أني أموت

مضغة تافهة في جوف حوت(6)

    أن يكون العمر كله مجرد كهف موحش، يرقد المرء وحيدًا في زاوية من زواياه، محمومًا ضريرًا، وحوله تتحرك العناكب والخفافيش، والصمت مطبق على كل الأرجاء بمرارة وأسى. وفي هذه الظروف المأساوية يبدأ الموت بالسريان في المرء ببطء وتدرج، وكأنه في نزهة، هكذا يصور الشاعر فصول المأساة.

    ولئن كان موت الأمة قد اتخذ، فيما سبق من أمثلة، طابعًا تجريديًا، بمعنى أنه اكتفى بالحومان حول الفكرة الكلية للموت دونما ولوج في ذكر الجزئيات والمصاديق، فإنّ هناك أمثلة أخرى يقترب فيها خليل حاوي من التحديد أكثر، ساعيًا إلى التصريح ببعض مصاديق الموت وتجلياته. فمن هذه المصاديق والتجليات: موت الإرادة والإحساس، فهو يقول:

لو كان فينا جمرةٌ خضرا

لثارت واستحالت خنجرًا يصيح

من لهب أخضر في الجروح

تفتق البلسم والريحان والظلال

كانت جروح.. عاصفٌ وزال(7)

 "الشمس وزهو العمر والنضارة"، وهي أمور لا يستغني عنها أي ذي لبّ.

    وما دام التمويه هو ما يسود الحياة القائمة، فلن يحالف التوفيق أحدًا إلا إذا أتقن الخداع والتضليل، وترك الصدق والإخلاص واستحال:

لساحر يموّه الأشياء في العيون

مهرج حزين

في مسرح الغجر

يروّض الأفعى ويمشي حافيًا

يمشي على الجمر على الإبر

يعجن في أسنانه الزجاج والحجر

يضم في كفيه وهج الشمس للظلال

ينسج منها هالة وشال

حورية تهبط من أكمامه الطوال(10)

    والشاعر هنا "كأنه يود أن يقول إن الذين يستأثرون بالانتباه وينالون التصفيق ليسوا سوى المشعوذين. لقد افتقد الإنسان حقيقته, وغدا العيش يستحيل عليه إذا لم يخدع نفسه ويخدع الناس، لأن حضارتنا هي حضارة خداع وشعوذة" (11) الحياة كلها، إذن، زيف وخداع وتمويه، والواقع ليس فيه غير الموت حاكمًا مطلقًا نافذًا حكمه في الأشياء كلها والموجودات جميعها. كل هذا لأنّ ثمة رفضًا لكل ما هو جديد، وتشبثًا بكل ما هو قديم، أيًا ما كان هذا القديم أو ذاك الجديد، فكيف تعامل خليل حاوي مع مثل هذه النظرة

جدلية الماضي والحاضر:

تنطلق النظرة المتعصبة للقديم من منطلق الإيمان بأنّ الماضي هو، وحده، موئل كل ما هو صواب وصحيح، بل بأنّ الماضي يعني الحقيقة المطلقة، تمامًا كما كان الدرويش، في قصيدة "البحار والدرويش" يقول:

طرقات الأرض مهما تتناءى

عند بابي تنتهي كل طريق

وبكوخي يستريح التوأمان:

الله، والدهر السحيق (12)

    الدرويش "العتيق" يرى أنه – وهو الموغل في التشبث بالماضي وبكل ما هو قديم – قد أحاط بالحقيقة من كل مساربها، فلم يبقَ طريق إلا وهو يقود إلى باب كوخه، كيف لا وبكوخه "يستريح التوأمان: الله والدهر العتيق"؟ وبذا تكون كل محاولة للبحث عن الحق والصواب بمعزل عن الماضي، محكومة بالفشل قبل بدئها.

أمام مثل هذه النظرة، يسعى خليل حاوي إلى زعزعة ما يمكن زعزعته  من القناعة الراسخة عند الناس بثبات الماضي واكتماله، وذلك من خلال إبرازه العلاقة الجدلية القائمة بين الماضي والحاضر، وهي العلاقة التي لا يبصر الناس، عادةً، سوى أحد جانبيها، بينما يركز حاوي على الجانب الآخر. فالناس في العادة يؤمنون بتأثير الماضي (التراث) في الحاضر؛ لذا نجدهم يكررون مقولات مثل: مَن لا ماضي له لا حاضر له. لكنّ للمسألة وجهًا آخر، قد يكون أشد خطورة من الأول، وهو أنّ للحاضر تأثيرًا في الماضي أيضًا، وهكذا تنعكس المقولة السابقة لتصبح: مَن لا حاضر له لا ماضي له. وكأنّ الماضي ليس شيئًا تام الاكتمال، راسخ الثبات، بل هو متأثر بالحاضر، تمامًا كما يتأثر الحاضر به. فعندما يموت الحاضر يموت معه الماضي أيضًا، وهذا ظاهر في وصف الشرق الذي حطّ فيه "البحار":

مطرح رطب يميت الحس

في أعصابه الحرّى، يميت الذكريات (13)

حاضر الشرق هنا ميت تمامًا "يميت الحس"، فإذا مات الحاضر فأنّى للذكريات أن تبقى حية؟ وموت الذكريات ليس إلا موت الماضي تبعًا لموت الحاضر.

وتظهر القضية بنحو أوضح في قصيدة "سدوم" حين يسأل:

أي ذكرى، أي ذكرى

من فراغ ميت الآفاق.. صحرا

مسحت ما قبلها، ثم اضمحلت

خلّفت مطرحها طعم رماد (14)

    سؤال الشاعر هنا سؤال مغرق في الإنكار، والإغراق يستمد دلالته من تكرار السؤال. إنه ينكر أن تبقى ثمة ذكرى، ما دام الحاضر ليس سوى صحراء يغلّفها الفراغ من كل حدب وصوب، فهذه الصحراء الفارغة كفيلة بأن تلغي كل الماضي، ثم تضمحل بنفسها، لتخلّف وراءها العدم نفسه، وشيء من "طعم رماد".

ومن هنا، يكون الحريصون على الماضي مطالَبين بتغيير حاضرهم، حفاظًا على قيمة الماضي ونضارته:

باسم ما أحرقت من نفسي بنفسي

لأصفي وجه تاريخي وأمسي (15)

ومن دون هذه الخطوة، سيبقى الماضي حزينًا مهينًا، لا دور له سوى إلغاء فاعلية هذه الأمة وقدرتها على استبصار صالحها وسبيل تقدمها:


تنفض الأمس الذي حجّر

عينيها يواقيتًا بلا ضوء ونار

وبحيرات من الملح البوار

تنفض الأمس الحزينا والمهينا (16)

إنّ كون العلاقة بين الماضي والحاضر علاقة جدلية، إشارة إلى أنه ليست لأحد الطرفين، في حد ذاته، ميزة على الطرف الآخر. فالميزة إنما هي لما يتوافق مع فطرة الإنسان الأصيلة، ولما لا يتغير على مرّ الأيام وصروف الدهر، كوجه السندباد الذي يقول فيه:

أدري أنّ لي وجهًا طريًا

أسمرًا لا يعتريه

ما اعترى وجهي

الذي جارت عليه

دمغة العمر السفيه (17)

    والعودة إلى الفطري والأصيل ليست مقصورة على العودة إلى ما في الماضي وحده من أصالة، ففي الحاضر أيضًا كثير من الأمور المتفقة مع الفطرة والمناسِبة لسد احتياجاتنا، ومن هنا تكون من أُولى أولويات الانبعاث أن يكفل لنا الرجوع إلى البراءة والفطرة:

ويعود ما كانت عليه

التربة السمراء في بدء الخليقة

بكرًا لأول مرة تشهى (18)

    وهكذا، لا تبقى بين الماضي والحاضر، أو التراث والمعاصرة، أية منافاة؛ ذلك أنّ الانبعاث لا يتنكر للتراث، كما لا يغمض عينيه عن مقتضيات المعاصرة، فهو يبحث في كل منهما عن الأصيل والحيوي. وفي هذا يقول خليل حاوي: "من البداهة أن يكون الانبعاث صهرًا للتراث، يمهد لتفجّر تلقائي بالجديد الأصيل غير المرتقب. وأحرى أن يعتبر تعبيرًا واحدًا عما اختزنت الأمة من طاقة حيوية عبر هجوع تاريخي طويل" (19).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

MODAKRATI تصميم بلوجرام © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.